فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقدر الناصية بربع الرأس. قرأ جماعة {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب، فدل على أن الأرجل مغسولة.
فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها. وقيل إِلَى الْكَعْبَيْنِ فجيء بالغاية إماطة لظنّ ظانّ يحسبها ممسوحة، لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة. وعن على رضى اللَّه عنه: أنه أشرف على فتية من قريش فرأى في وضوئهم تجوزًا، فقال: ويل للأعقاب من النار، فلما سمعوا جعلوا يغسلونها غسلا ويدلكونها دلكا. وعن ابن عمر: كنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فتوضأ قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال: «ويل للأعقاب من النار» وفي رواية جابر «ويل للعراقيب» وعن عمر أنه رأى رجلا يتوضأ فترك باطن قدميه، فأمره أن يعيد الوضوء، وذلك للتغليظ عليه. وعن عائشة رضى اللَّه عنها لأن تقطعا أحب إلىّ من أن أمسح على القدمين بغير خفين. وعن عطاء: واللَّه ما علمت أن أحدًا من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مسح على القدمين. وقد ذهب بعض الناس إلى ظاهر العطف فأوجب المسح.
وعن الحسن: أنه جمع بين الأمرين. وعن الشعبي: نزل القرآن بالمسح والغسل سنة. وقرأ الحسن:
وأرجلكم، بالرفع بمعنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة إلى الكعبين. وقرئ {فَاطَّهَّرُوا} أى فطهروا أبدانكم، وكذلك ليطهركم. وفي قراءة عبد اللَّه: فأمّوا صعيدًا {ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} في باب الطهارة، حتى لا يرخص لكم في التيمم {وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} وليتمّ برخصه إنعامه عليكم بعزائمه {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته فيثيبكم.

.[سورة المائدة: آية 7]

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)}.
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وهي نعمة الإسلام وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ أى عاقدكم به عقدًا وثيقًا هو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره فقبلوا وقالوا: سمعنا وأطعنا. وقيل: هو الميثاق ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان.

.[سورة المائدة: الآيات 8- 10]

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)}.
عدّى يَجْرِمَنَّكُمْ بحرف الاستعلاء مضمنا معنى فعل يتعدّى به، كأنه قيل: ولا يحملنكم. ويجوز أن يكون قوله: {أَنْ تَعْتَدُوا} بمعنى على أن تعتدوا، فحذف مع أن ونحوه قوله عليه السلام: «من اتبع على مليء فليتبع» لأنه بمعنى أحيل. وقرئ {شَنَآنُ} بالسكون. ونظيره في المصادر «ليان» والمعنى: لا يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم وتتشفوا بما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مثلة أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو ما أشبه ذلك اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى نهاهم أوّلا أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم استأنف فصرّح لهم بالأمر بالعدل تأكيدًا وتشديدًا، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله: {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} أى العدل أقرب إلى التقوى، وأدخل في مناسبتها. أو أقرب إلى التقوى لكونه لطفا فيها. وفيه تنبيه عظيم على أن وجود العدل مع الكفار الذين هم أعداء اللَّه إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظنّ بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ بيان للوعد بعد تمام الكلام قبله، كأنه قال: قدّم لهم وعدًا فقيل: أى شيء وعده لهم؟ فقيل: لهم مغفرة وأجر عظيم. أو يكون على إرادة القول بمعنى وعدهم وقال لهم مغفرة. أو على إجراء وعد مجرى قال: لأنه ضرب من القول. أو يجعل وعد واقعًا على الجملة التي هي لهم مغفرة، كما وقع {تركنا} على قوله: {سَلامٌ عَلى نُوحٍ} كأنه قيل: وعدهم هذا القول وإذا وعدهم من لا يخلف الميعاد هذا القول، فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم.
وهذا القول يتلقون به عند الموت ويوم القيامة، فيسرون به ويستروحون إليه ويهوّن عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى الثواب.

.[سورة المائدة: آية 11]

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}.
روى أن المشركين رأوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلون معا، وذلك بعسفان في غزوة ذى أنمار. فلما صلوا ندموا أن لا كانوا أكبوا عليهم، فقالوا: إنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، يعنون صلاة العصر وهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها. فنزل جبريل بصلاة الخوف. وروى أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أتى بنى قريظة ومعه الشيخان وعلىّ رضى اللَّه عنهم يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، اجلس حتى نطعمك ونقرضك، فأجلسوه في صفة وهموا بالفتك به، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحا عظيمة يطرحها عليه، فأمسك اللَّه يده ونزل جبريل فأخبره، فخرج. وقيل: نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون بها، فعلق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء أعرابى فسلّ سيف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك منى؟ قال: اللَّه، قالها ثلاثا، فشام الأعرابى السيف فصاح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم، وأبى أن يعاقبه. يقال: بسط إليه لسانه إذا شتمه، وبسط إليه يده إذا بطش به {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} ومعنى «بسط اليد» مدّها إلى المبطوش به. ألا ترى إلى قولهم: فلان بسيط الباع، ومديد الباع، بمعنى.
فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ فمنعها أن تمدّ إليكم. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}.
واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلاّ أنها منحصرة في نوعين: التعظيم لأمر الله وإليه الإشارة بقوله: {كونوا قوّامين لله} والشفقة على خلق الله وحث عليها بقوله: {شهداء بالقسط} قال عطاء: يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودّك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. وقال الزجاج: بينوا دين الله لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه. ثم أمر جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدًا إلاّ على سبيل العدل والإنصاف ويتركوا الظلم والاعتساف فقال: {ولا يجرمنكم} أي لا يحملنكم بغض {قوم على أن لا تعدلوا} أي فيهم فحذف للعلم. ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدًا فقال: {اعدلوا} ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل فقال: {هو} أي العدل الذي دل عليه اعدلوا {أقرب للتقوى} أي إلى الاتقاء من عذاب الله أو من معاصيه. وقيل: المراد سلوك سبيل العدالة مع الكفار الذين صدوا المسلمين عن البيت بأن لا يقتلوهم إذا أظهروا الإسلام، أو لا يرتكبوا ما لا يحل من مثلة، أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نيقض عهد أو نحو ذلك.
وفي هذا تنبيه على أن العدل مع أعداء الله إذا كان بهذه المكانة فكيف يكون مع أوليائه وأحبائه؟ ثم ختم الكلام بوعد المؤمنين ووعيد الكافرين وقوله: {لهم مغفرة} بيان للوعد قدم لهم وعدًا، ثم كأنه قيل: أي شيء ذلك؟ فقيل: لهم مغفرة أو يكون على إرادة القول أي وعدهم وقال لهم مغفرة، أو يكون وعد مضمنًا معنى قال، أو يجعل وعد واقعًا على هذا القول وإذا وعدهم هذا القول من هو قادر على كل المقدورات عالم بجميع المعلومات غني عن كل الحاجات فقد امتنع الخلف في وعده لأن سبب الخلف إما جهل أو عجزًا أو بخل أو حاجة وهو منزه عن الكل. وهذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عند سكرات الموت فيسهل عليه الشدائد وفي ظلمة القبر فيفيده نورًا وفي عرصه القيامة فيزيده حبورًا والجحيم اسم من أسماء النار وهي كل نار عظيمة في مهواة كقوله: {قالوا ابنوا له بنيانًا فألقوه في الجحيم} [الصافات: 97] وأصحاب الجحيم ملازموها. بسط إليه لسانه إذا شتمه وبسط إليه اليد مدّها إلى المبطوش به. عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلًا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم على شجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله- قالها ثلاثًا- والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله. فأغمد الأعرابي السيف فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه. وقال مجاهد والكلبي وعكرمة: قتل رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من بني سليم- وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة- فجاء قومهما يطلبون الدية فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم فدخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستقرضهم في عقلهما فقالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا. فجلس هو وأصحابه فخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمدًا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا. فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله يده، فجاء جبريل عليه السلام وأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عيله وسلم وأنزل الله هذه الآية وقيل: نزلت قصة عسفان حين هم الأعداء أن يواقعوهم فنزلت صلاة الخوف. وقيل: إنها لم تنزل في واقعة خاصة ولكن المراد أن الكفار أبدًا كانوا يريدون إيقاع البلاء والنهب والقتل بالمسلمين فأعز الله المسلمين وفل شوكة الكفار وقوى دين الإسلام وأظهره على الأديان. اهـ.

.قال سيد قطب:

{واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور}.
وكان المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعرفون- كما قدمنا- قيمة نعمة الله عليهم بهذا الدين. إذ كانوا يجدون حقيقتها في كيانهم، وفي حياتهم، وفي مجتمعهم، وفي مكانهم من البشرية كلها من حولهم. ومن ثم كانت الإشارة- مجرد الإشارة- إلى هذه النعمة تكفي، إذ كانت توجه القلب والنظر إلى حقيقة ضخمة قائمة في حياتهم ملموسة.
كذلك كانت الإشارة إلى ميثاق الله الذي واثقهم به على السمع والطاعة، تستحضر لتوها حقيقة مباشرة يعرفونها. كما كانت تثير في مشاعرهم الاعتزاز حيث تقفهم من الله ذي الجلال موقف الطرف الآخر في تعاقد مع الله، وهو أمر هائل جليل في حس المؤمن، حين يدرك حقيقته هذه ويتملاها..
ومن ثم يكلهم الله في هذا إلى التقوى. إلى إحساس القلب بالله، ومراقبته في خطراته الخافية:
{واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور}.